فصل: تفسير الآية رقم (63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (56):

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُلْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْكُ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ فِيهِ اسْمُ الْمَلِكِ إِلَّا لِلَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمُلْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخَلْقِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [1/ 4] وَقَوْلِهِ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} الْآيَةَ [25/ 26] وَقَوْلِهِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [40/ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الْآيَةَ [6/ 73]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إِدْخَالُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْجَنَّةَ الْمَذْكُورُ هُنَا وَكَوْنُ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمُ الْعَذَابُ الْمُهِينُ: {يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [22/ 56] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَعْنَاهُ مِرَارًا بِكَثْرَةٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلُوا بِأَنْ قَتْلَهُمُ الْكُفَّارُ فِي الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، أَوْ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ حَتْفَ أَنْفِهِمْ فِي غَيْرِ جِهَادٍ، أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ لَيَرْزُقَنَّهُمْ رِزْقًا حَسَنًا وَأَنَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا ذَكَرْنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ رِزْقًا حَسَنًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [3/ 169] وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُرْزَقُهُمْ رِزْقٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ مَاتُوا فِي قِتَالِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَوْ مَاتُوا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [4/ 100] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ الرِّزْقَ الْحَسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَفًا مِنْهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ قُتِلُوا قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا.

.تفسير الآيات (61-62):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى نُصْرَةِ مَنْ ظُلِمَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الْآيَةَ [22/ 60]، أَيْ: ذَلِكَ النَّصْرُ الْمَذْكُورُ كَائِنٌ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُ عَنْ نُصْرَةِ مَنْ شَاءَ نُصْرَتَهُ، وَمِنْ عَلَامَاتِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ: أَنَّهُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُصَرِّفُهَمَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي فِيهِمَا عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبَغْيِ وَالِانْتِصَارِ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ، بَصِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ أَيْ: وَذَلِكَ الْوَصْفُ بِخَلْقِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَالْإِحَاطَةِ بِمَا يَجْرِي فِيهِمَا، وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أَيِ: الثَّابِتُ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُدَّعَى إِلَهًا غَيْرَهُ بَاطِلٌ وَكُفْرٌ، وَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الَّذِي هُوَ أَعَلَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى لِأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا، بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الْآيَةَ [22/ 61]، وَلِآخِرِهِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الْآيَةَ [22/ 62].
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ: رَاجِعَةٌ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ لِقَوْلِهِ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [22/ 56]، إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ كَوْنِ الْمُلْكِ لَهُ وَحْدَهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ وَحْدَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ الْمُدْخِلُ الصَّالِحِينَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالْمُعَذِّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَالنَّاصِرُ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِسَبَبِ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ: {أَنَّهُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِ النَّاسِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [31/ 28].
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ، فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [31/ 29- 30] فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ فِي الْحَجِّ، وَفِي لُقْمَانَ، وَإِيلَاجُ كُلٍّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْآخَرِ فِيهِ مَعْنَيَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ هُوَ: أَنَّ إِيلَاجَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، إِنَّمَا هُوَ بِإِدْخَالِ جُزْءٍ مِنْهُ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يَطُولُ النَّهَارُ فِي الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ أُولِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ وَيَطُولُ اللَّيْلُ فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّهُ أُولِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ.
الْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِيلَاجَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، هُوَ تَحْصِيلُ ظُلْمَةِ هَذَا فِي مَكَانِ ضِيَاءِ ذَلِكَ، بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، وَضِيَاءِ ذَلِكَ فِي مَكَانِ ظُلْمَةِ هَذَا كَمَا يُضِيءُ الْبَيْتُ الْمُغْلَقُ بِالسِّرَاجِ، وَيُظْلِمُ بِفَقْدِهِ. ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَأَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَكْثَرُ قَائِلًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [22/ 62] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ الْفَوْقِيَّةِ.

.تفسير الآية رقم (63):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} الظَّاهِرُ: أَنَّ تَرَ هُنَا مِنْ رَأَى بِمَعْنَى: عَلِمَ؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا بِالْبَصَرِ فَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، إِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْعِلْمِ لَا بِالْبَصَرِ، فَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ.
فَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمِ اللَّهَ مُنْزِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: ذَاتَ خُضْرَةٍ بِسَبَبِ النَّبَاتِ الَّذِي يُنْبِتُهُ اللَّهُ فِيهَا بِسَبَبِ إِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا مِنْ كَوْنِ إِنْبَاتِ نَبَاتِ الْأَرْضِ، بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [41/ 39] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [41/ 39] وَكَقَوْلِهِ: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [30/ 50] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [30/ 50]، وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [50/ 9- 11] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [50/ 11] أَيْ:
خُرُوجُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [30/ 19] وَقَوْلِهِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [50/ 11]، {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [7/ 57] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا حِكْمَةُ عَطْفِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ عَلَى الْمَاضِي الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ؟
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ مَعَ أَنَّ قَبْلَهَا اسْتِفْهَامًا؟
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ النُّكْتَةَ فِي الْمُضَارِعِ هِيَ إِفَادَةُ بَقَاءِ أَثَرِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ كَمَا تَقُولُ: أَنْعَمَ عَلَى فُلَانٍ عَامَ كَذَا وَكَذَا، فَأَرُوحُ وَأَغْدُو شَاكِرًا لَهُ، وَلَوْ قُلْتَ: فَغَدَوْتُ وَرُحْتُ، لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ، هَكَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ يُفِيدُ اسْتِحْضَارَ الْهَيْئَةِ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِهَا الْأَرْضُ: بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالْمَاضِي لَا يُفِيدُ دَوَامَ اسْتِحْضَارِهَا؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الشَّيْءِ.
أَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَبَّبُ الْإِنْزَالِ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ، وَالْإِنْزَالُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِصْبَاحِ الْأَرْضِ مُخْضَرَّةً لَيْسَ فِيهِ اسْتِفْهَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاءَ الَّتِي يُنْصَبُ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِنْ حُذِفَتْ جَازَ جَعْلُ مَدْخُولِهَا جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ هُنَا: إِنْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، تُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا أَثَرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ فِي اخْضِرَارِ الْأَرْضِ، بَلْ سَبَبُهُ إِنْزَالُ الْمَاءِ لَا رُؤْيَةُ إِنْزَالِهِ.
وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ رُفِعَ وَلَمْ يُنْصَبْ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ.
قُلْتُ: لَوْ نُصِبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ؛ لَأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ، إِنْ تَنْصِبْهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٌّ تَفْرِيطَهُ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ ظَانًّا أَنَّهُ أَوْضَحَهُ، وَلَا يَظْهَرُ لِي كُلَّ الظُّهُورِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَتُصْبِحُ مَعَ أَنَّ اخْضِرَارَ الْأَرْضِ، قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: تَصِيرُ مُخْضَرَّةً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَنِيًّا مَثَلًا بِمَعْنَى صَارَ، وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ تُصْبِحُ فِيهِ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فِي نَفْسِ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ.
وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَعَلِيٌّ هَذَا فَلَا إِشْكَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [23/ 14] مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَوْلُهُ: لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، وَمِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ إِنْزَالُهُ الْمَطَرَ وَإِنْبَاتُهُ لَهُمْ بِهِ أَقْوَاتَهُمْ، خَبِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.

.تفسير الآية رقم (65):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِخَلْقِهِ مَا فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ السُّفُنَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [45/ 13] وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاءِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [15/ 17]، وَكَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [36/ 41- 42] وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَتُهْلِكُ مَنْ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَأَهْلَكَتْ مَنْ عَلَيْهَا؛ كَمَا قَالَ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ [34/ 9]، وَقَدْ أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} الْآيَةَ [35/ 41]،
وَكَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [23/ 17] عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا: بِأَنَّهُ غَيْرُ غَافِلٍ عَنِ الْخَلْقِ بَلْ حَافِظٌ لَهُمْ مِنْ سُقُوطِ السَّمَاوَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالطَّرَائِقِ عَلَيْهِمْ.
تَنْبِيهٌ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [22/ 65] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [35/ 41] وَقَوْلِهِ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [34/ 9] وَقَوْلِهِ: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [78/ 12] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [51/ 47]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} الْآيَةَ [21/ 32]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ مَلَاحِدَةُ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ مَطْمُوسِي الْبَصَائِرِ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ السَّمَاءَ فَضَاءٌ لَا جُرْمٌ مَبْنِيٌّ، أَنَّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ، وَتَكْذِيبٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [22/ 65] أَيْ: وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَمْسَكَ السَّمَاءَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُسْقِطْهَا عَلَيْهِمْ.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أَيْ: بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيكُمْ فَهُمَا إِحْيَاءَتَانِ، وَإِمَاتَتَانِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [2/ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الْآيَةَ [40/ 11].
وَنَظِيرُ آيَةِ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةِ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى، فِي الْجَاثِيَةِ: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [45/ 26]، وَكُفْرُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَاتَهُ مَرَّتَيْنِ، هُوَ الَّذِي دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى اسْتِعْبَادِهِ وَإِنْكَارِهِ مَعَ دَلَالَةِ الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَتَيْنِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ، وَعَدَمِ الْكُفْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} الْآيَةَ [2/ 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [22/ 67]، أَيْ: مُتَعَبَّدًا هُمْ مُتَعَبِّدُونَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النُّسُكِ التَّعَبُّدُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْسَكَ كُلِّ أُمَّةٍ فِيهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالذَّبْحِ، فَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ النُّسُكِ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِدُخُولِهِ فِي عُمُومِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ.
وَالْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} الْآيَةَ [22/ 34] وَقَوْلُهُ: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [22/ 34 وَ67] فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى} أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ، أَيْ: إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَهُ فِيهَا أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقِ حَقٍّ وَاضِحٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، جَاءَ وَاضِحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [28/ 87] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الْآيَةَ [42/ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [16/ 125] وَأَخْبَرَ- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [23/ 73] وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [42/ 52] وَكَقَوْلِهِ فِي الْأَخِيرِ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [27/ 79] وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} الْآيَةَ [45/ 18] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [48/ 2].
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنْ جَادَلَهُ الْكُفَّارُ أَيْ: خَاصَمُوهُ بِالْبَاطِلِ وَكَذَّبُوهُ، أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: مِنَ الْكُفْرِ، فَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ.
الثَّانِي: الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا إِعْرَاضُهُ عَنْهُمْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ بِالْجِدَالِ الْبَاطِلِ فَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُشِيرَ لَهُ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [10/ 41].
وَأَمَّا تَهْدِيدُهُمْ فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ؛ كَقَوْلِهِ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [46/ 8] وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [6/ 147] فَقَوْلُهُ: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} الْآيَةَ، فِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ لِلْمُكَذِّبِينَ، كَمَا قَالَ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [77/ 15] فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَذِّبُونَهُ بِالْجِدَالِ، وَالْخِصَامِ بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [16/ 125] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [29/ 46] وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ بِمِثْلٍ لِيَحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهِ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا جَاءَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْمَغُ ذَلِكَ الْبَاطِلَ، مَعَ كَوْنِهِ أَحْسَنَ تَفْسِيرًا وَكَشْفًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقَائِقِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [25/ 33].

.تفسير الآية رقم (74):

{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنَ الذُّبَابِ مَا سَلَبَهُ الذُّبَابُ مِنْهُ، كَالطِّيبِ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ، إِنْ سَلَبَهَا الذُّبَابُ مِنْهُ شَيْئًا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ، وَكَوْنِهِمْ لَمْ يُعَظِّمُوا اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ عَبَدُوا مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [6/ 91] وَكَقَوْلِهِ فِي الزُّمَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [39/ 67].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَصْطَفِي، أَيْ: يَخْتَارُ رُسُلًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ النَّاسِ فَرُسُلُ النَّاسِ لِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ يُرْسِلُهُمْ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ اصْطِفَائِهِ الرُّسُلَ مِنْهُمَا جَاءَ وَاضِحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ فِي رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} الْآيَةَ [35/ 1].
وَقَوْلِهِ فِي جِبْرِيلَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [81/ 19] وَمِنْ ذِكْرِهِ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [6/ 61] وَكَقَوْلِهِ فِي رُسُلِ بَنِي آدَمَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [6/ 124] وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الْآيَةَ [2/ 253]، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} الْآيَةَ [16/ 36].

.تفسير الآية رقم (78):

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيِ: اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [3/ 110].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الْحَرَجُ: الضِّيقُ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، لَا عَلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ فِيهَا الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2/ 185] وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [4/ 28] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ خَوَاتِمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/ 286] قَالَ اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْتُ» فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الرُّخْصَةُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ فِيهِ، وَصَلَاةُ الْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ قَاعِدًا وَإِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ لِلضَّرُورَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الْآيَةَ [6/ 119] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَهَا مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ إِحْدَى الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ وَهِيَ هَذِهِ الْخَمْسُ.
الْأُولَى: الضَّرَرُ يُزَالُ وَمِنْ أَدِلَّتِهَا حَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
الثَّانِيَةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ: {وَهِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ هُنَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [22/ 78] وَمَا ذَكَرْنَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّالِثَةُ: لَا يُرْفَعُ يَقِينٌ بِشَكٍّ، وَمِنْ أَدِلَّتِهَا حَدِيثُ «مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ فِي دُبُرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا»؛ لِأَنَّ تِلْكَ الطَّهَارَةَ الْمُحَقَّقَةَ لَمْ تُنْقَضْ بِتِلْكَ الرِّيحِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا.
الرَّابِعَةُ: تَحْكِيمُ عُرْفِ النَّاسِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي صِيَغِ عُقُودِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ لِهَذِهِ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الْآيَةَ [7/ 199].
الْخَامِسَةُ: الْأُمُورُ تَبَعُ الْمَقَاصِدِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ حَدِيثُ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي كِتَابِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى هَذِهِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ بِقَوْلِهِ:
قَدْ أُسِّسَ الْفِقْهُ عَلَى رَفْعِ الضَّرَرِ ** وَأَنَّ مَا يَشُقُّ يَجْلِبُ الْوَطَرَ

وَنَفَى رَفْعَ الْقَطْعِ بِالشَّكِّ وَأَنْ ** يَحْكُمُ الْعُرْفُ وَزَادَ مَنْ فَطِنَ

كَوْنُ الْأُمُورِ تَبَعَ الْمَقَاصِدِ ** مَعَ التَّكَلُّفِ بِبَعْضِ وَارِدِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ مِنْ ضِيقٍ، كَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَنْصُوبًا بِمَحْذُوفٍ أَيِ: الْزَمُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [22/ 78] شَامِلًا لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [22/ 77- 78]، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [6/ 161] وَالدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: شَامِلٌ لِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} وَفِي هَذَا، اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ} [22/ 78] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَقَتَادَةُ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَيْ: إِبْرَاهِيمُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [2/ 128] وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَجِئْنَا بِأَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَرِينَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ غَيْرُ صَوَابٍ.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَالَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا، أَيِ: الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَمِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرْآنِ، لِنُزُولِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِأَزْمَانٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ.
الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا فِي السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَوْلُهُ هُوَ اجْتَبَاكُمْ، أَيِ: اللَّهُ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أَيِ: اللَّهُ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ أَيِ: اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ لِلضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَحَلَّ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مَحَلُّهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَهُنَا قَدْ صَرَفَ عَنْهُ صَارِفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِي هَذَا يَعْنِي الْقُرْآنَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ: هُوَ اللَّهُ لَا إِبْرَاهِيمُ، وَكَذَلِكَ سِيَاقُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ نَحْوَ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [22/ 78] يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَمَّاكُمْ أَيِ: اللَّهُ، الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ: أَنَّ الَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا: هُوَ اللَّهُ، لَا إِبْرَاهِيمُ مَا نَصُّهُ:
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثُمَّ حَثَّهُمْ وَأَغْرَاهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمُ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ، وَقَدِيمِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ، تُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ فَقَالَ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ.
وَفِي هَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ أَخَاهُ زَيْدَ بْنَ سَلَامٍ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَامٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثِيِّ جَهَنَّمَ»، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى، فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [2/ 21] اهـ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يَعْنِي: إِنَّمَا اجْتَبَاكُمْ، وَفَضَّلَكُمْ وَنَوَّهَ بِاسْمِكُمُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ نُزُولِ كِتَابِكُمْ، وَزَكَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَسَمَّاكُمْ فِيهَا الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ سَمَّاكُمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ. وَقَدْ عُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّكُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ عُدُولٌ خِيَارٌ مَشْهُودٌ بِعَدَالَتِكُمْ، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، حِينَ يُنْكِرُ الْكُفَّارُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، أَنَّهُ بَلَّغَكُمْ، وَقِيلَ: شَهِيدًا عَلَى صِدْقِكُمْ فِيمَا شَهِدْتُمْ بِهِ لِلرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ مِنَ التَّبْلِيغِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا ذَكَرَهُ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [2/ 143] وَقَالَ فِيهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} الْآيَةَ [48/ 8]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.